فلسفة

العبقري…مواصفاته و ملامحه

ما هي العبقرية مواصفات ملامح سمات و طباع العبقري المفكر ، إن العبقري المفكر هو من توافرت لديه في وقت مبكر من حياته كل الخصائص التي يمكن ان تخلق العبقرية الفلسفية و هي: تحرر الشخصة, و المعرفة المبكرة بالطبيعة البشرية, و التحرر من التربية المدرسية, و من التحديدات القومية, و التحرر من الاضطرار إلى كسب القوت اليومي, و من الإرتباط بالدولة, أي في كلمة واحدة: الحرية

إن الطبيعة لا تمنح العبقرية إلا للقليل من الناس، لأن العبقرية تعوق سير الحياة العادية التي تقتضي التركيز في الأمور الخاصة السريعة، لقد أرادت الطبيعة أن يكون حتى المتعلمون و المثقفون حارثين للأرض، و أساتذة الجامعات يشملهم هذا المستوى. و السعادة التي يستمدها العبقري من الجمال على اختلاف صوره و السلوى التي يقدمها له الفن، و حماس الفنان الذي يتصف به تمكنه من نسيان مشاغل الحياة، و تعوّضه عن الألم الذي يزداد في الإنسان بنسبة وضوح إدراكه ووحدته الموحشة بين جنس البشر.

و العبقرية هي النظرة اللاشخصية السامية المجرّدة عن المصلحة الشخصية تماماً. إن العبقرية هي القوة التي يتمكن فيها الفرد من نبذ مصالحه، و رغباته و أغراضه و إبعادها تماماً عن بصره، و القوة التي يستطيع بها إنكار شخصيته إنكاراً تاماً، مدة من الوقت، ليبقي معرفة خالصة، و بصيرة واضحة بالعالم، و لهذا فإن العبقرية هي سيادة المعرفة على الإرادة سيادة واضحة، أما في الحالات العادية فإن الإرادة تسود المعرفة، و المعرفة تنشط بدافع الإرادة فقط، بحيث تكون المصالح الشخصية و المنفعية هي الموجه للمعرفة. إن هذا الإنكار الذاتي و الشخصي في العبقرية يجعله غريباً في هذا العالم الذي تسوده المصالح الذاتية و الرغبات النفعية و الدوافع الشخصية. لذلك نجد العبقري بامتداد بصره إلى الأمور البعيدة و رؤيته لها، لا يلتفت إلى الأشياء القريبة فلا يراها.

يعني أن العبقري هو أعلى صورة من صور المعرفة التي تجرّدت عن الإرادة، كما أن أحط ضروب أنواع الحياة هو ما كان ناجماً عن إرادة بحتة، بغير معرفة، و الإنسان بصفه عامة تغلب عليه الإرادة أكثر من المعرفة، أما العبقري فتغلب فيه المعرفة و تقل الإرادة، و في العبقري، تكون الملكة العارفة قد نمت و تطورت تطوراً كبيراً يزيد عما تتطلبه خدمة الإرادة، و هذا يؤدي إلى انتقال بعض القوة من النشاط التناسلي إلى النشاط العقلي. إن الصفة الأولى للعبقرية هي سيطرة غير مألوفة للحساسية و الغضب و القوة التناسلية، و من هنا كانت العداوة بين العبقري و المرأة، لأن المرأة تمثل التناسل و خضوع العقل لإرادة الحياة. و قد يكون للنساء موهبة عظيمة، و لكن ليست فيهن عبقرية، لأنهن دائماً يظللن ذاتيات، كل شيء عندهن شخصي.

إن العبقرية أولاً و قبل كل شيء تكمن في المعرفة، و هذه المعرفة ليست معرفة مجرّدة و لكنها معرفة حدسية موضوعية تتجه للعالم الخارجي و ليس للذات فهي القدرة على الرؤية الميتافيزيقية التي يستبعد فيها المرء كل اهتماماته و رغباته، ليصبح ذاتاً عارفة خالصة، أو رؤية موضوعية و باطنية للعالم.

مواصفات و ملامح العبقرية:

  • لا يشترط على العبقري أن يفعل ما يقول

أن يعمل الأنسان في حياته الخارجية بما به يقول و إليه يدعو شيء, و شيء آخر أن يحيا الإنسان ما يقوله. فالأولى مسألة تتعلّق بالتقويم الفكري؛ أو بعبارة أخرى تتعلّق الأولى بالحياة الخارجية، و الأخرى بالحياة الباطنية. أما الحياة الخارجية

فحياة يتميز بها رجال الأفعال و الأعمال، و لا قيمة لها بالنسبة إلى المفكرين على وجه الإطلاق. و إلا أخطأنا بالقياس الصحيح، فعددنا المفكرين في أدنى مرتبة من مراتب الوجود الإنساني، لأنهم أقل الناس أثراً في ميدان الحياة الخارجية. إن الذين وُهبوا العبقرية و سمو الروح، و هؤلاء الذين برزت الناحية العقلية – النظرية الروحية عندهم على الناحية الأخلاقية العملية الشخصية بمقدار هائل، هم دائماً في الحياة العملية ليسوا فقط عاجزين مثيرين للسخرية…بل و أيضاً أحياناً كثيرة من الناحية الأخلاقية هم ضعفاء يثيرون الشفقة، و كدت أقول شبه أشرار. و مع هذا فإن ينبوع كل فضيلة و الشعور الجيد بها أقوى عندهم غالباً مما هو عند الذين يجيدون العمل منهم و يفكرون أقل بكثير؛ أجل إن الأولين يعلمون الفضيلة تمام العلم و بدقة أكثر من الأخرين، لكن هؤلاء يمارسونها خيراً من الأولين. أولئك يستطيعون أن يسموا إلى السماء في سرعة و بدون التواء، تغمر نفوسهم الحماسة الحارة لكل ما هو خير و كل ما هو جميل؛ ولكن العنصر الأرضي الثقيل يعترض سبيلهم فيهبطون. فهم أشبه ما يكونون بالفنانين بالفطرة ممّن تعوزهم الصناعة الفنية أو يجدون المرمر شديد الصلابة…إنهم يلامون، لأن كل حي قد وقّع بحياته نفسها شروط الحياة؛ لكنهم من جهة أخرى جديرون بالرثاء، و خلاصهم لن يكون عن طريق فعل الفضيلة، إنما عن طريق آخر خاص. فليست الأعمال، إنما الإيمان هو الذي يجعلهم سعداء.

  • العباقرة مزدوجو الشخصية

العباقرة و المفكرون يتصفون  بإزدواج الشخصية. فطبيعة المفكر مكوّنة من عنصرين متعارضين، أحدهما خفيف ينزع ببصره إلى السماء. و الآخر كثيف يتجه نحو الأرض؛ أولهما توّاق إلى النور و الجانب الأشراقي من الوجود، و الثاني متعلّق بالظلمة لاصق بالطين. يكون لكل منهما نفسان، كل منهما تريد أن تنتزع نفسها من الأخرى، فإحداهما تنشب مخالبها في العالم بشهوة جامحة قاسية؛ و الأخرى ترتفع من التراب بقوة إلى ساحة الأسلاف العليين.

العنصر الأرضي و العنصر العلوي:

إن العنصر الأرضي واضح خصوصاً في قوة الشهوة و الغريزة الجنسية و يعيش المفكر طوال حياته أسيراً لشيطانها، يحاول ما استطاع أن يظفر به و ينتصر عليه. و يصبو معظم المفكرين إلى الشيخوخة، لأن فيها وحدها يستطيع أن يتخلص من هذا الشيطان المريد. و تلك نعمتها الكبرى. ففي الشيخوخة يبلغ المرء حالة الهدوء الصافي التي يعانيها من فُكّت عنه القيود بعد أن ظل مكبلاً بها طويلاً، فصار الآن يتحرك حراً مطلقاً من كل قيد و من شيطان الشهوات.

أما العنصر العلوي فعلى العكس من ذلك. فنجده يكافح و يثور كي يؤكد ذاته و ينتصر على قرينه. فكان يصبو بكل قواه إلى الحياة السامية الخالية من كل شهوة، حياة القديس الشهيد و البوذا الذي بلغ النرفانا أو حياة الفيلسوف الأفلاطوني، و قد استقر بعالم الصور الأزلية – الأبدية يتأملها في سكون مطلق و سمو ناصع.

  • العبقري يعارض الفلسفة في الجامعات

إن الفيلسوف و المفكر الحر هو غالباً يعارض الفلسفة الجامعية الأكاديمية، و أساتذة الفلسفة في الجامعة بحيث أن الجامعة منشأة المجتمع, فتضطر الفلسفة إذاً إلى الخصوع لما يفرضه عليه المجتمع، و لما هو سائد و رسمي فيه. فعلى فيلسوف الجامعة أن يؤمن بالمعتقدات السائدة و أن يحاول تبعاً لهذا أن يوفّق بين هذه المعتقدات و بين ما يؤدي إليه تفكيره الحر من نتائج. و سيرى نفسه مضطراً حينئذ

إلى أن يختار واحداً من اثنين: بين الأخذ بما يفرض عليه من معتقدات فيبقى في الجامعة، و بين أن يفكر تفكيراً حراً مطلقاً من كل قيد فيكون جزاؤه الخروج منها، فإن أخذ بالأول فلن يكون بعد فيلسوفاً، و إن أخذ بالثاني كان ذلك مشروطاً بعدم البقاء في الجامعة و مهما يكن فالمبدأ الذي يستخلص من كلتا الحالتين هو أنه لا يمكن للمرء أن يجمع في نفسه بين الفلسفة الحقة و بين التدريس في الجامعة.

  • العبقري يكره الضوضاء

و يعتبرها معيارا للتخلف العقلي و أن طاقة الأنسان على تحمل الضوضاء و الضجيج من غير أن يضيق بهما دليل على مقدرته العقلية و مقياس لها..إن الضجة و الجلبة تعذيب للمثقفين الأذكياء الذين يعملون بعقولهم.

  • العبقري يحمل ملامح الجنون و الطفولة

و بمعنى آخر، إن العبقرية امتلاء للطفولة، أي أنها تلك السيادة الطبيعية للعقل على الإرادة، في تلك السن، بدلاً من أن تنقلب و تتحوّل، تظل قائمة طول العمر عند العبقري في صورة مستمرة. و ظاهرة التحول هذه هي التي تخيب بعض الآمال التي تعقدها على صغار الأطفال، إذ نتوسم فيهم الذكاء والعبقرية، و لكنهم ما إن يغدوا مراهقين حتى تغشى عقولهم سحب الغباء و التبلد و الخمول، و هذا لأن الطبيعة قد سادت عندهم في مجراها العادي، و من هنا كان ذلك التحوّل في تلك الفترة من العمر.

و العبقري يشابه المجنون في بعض الوجوه حيث أن المجنون يعيش الحاضر، و إن عاش في الماضي فهو يعيش فيه و كأنه حاضر، و ثمة علاقة أيضاً بين العبقري و الطفولة، و مرجع هذا التشابه بينهما إلى أن الجهاز العصبي عند الطفل يتفوّق على بقية الأجهزة، و نموه يسبقها جميعاً. و يعرب شوبنهاور عن اعتقاده أن أضعف الأجهزة عند العبقري هو الجهاز التناسلي. بهذا التفوًق العصبي نستطيع أن نفسّر ذكاء الأطفال و حضور بديهيتهم و يسر تفكيرهم، فهم أكثر استعداداً من البالغين للتفكير النظري، و أن المعارف التي يكتسبها الإنسان في صباه تفوق في مجموعها كل ما يمكن أن يعرفه في مقتبل عمره حتى ولو أمسى عالماً كبيراً. فكل طفل عبقري بمعنى من المعاني، و كل عبقري طفل بصورة من الصور.

  • العبقري يحمل الكآبة و الشقاء

من أقوى ملامح العبقري أيضاً هي الكآبة و الاكتئاب، فالعبقري بطبعه مكتئب و سر ذلك هو: عندما يتخلص العقل من الإرادة الغائية ينظر إلى الحياة نظرة موضوعية عميقة. حيث يرى تعاسة الإنسان في الحياة.

و الكآبة ما هي إلا المظهر الخارجي لشقاء العبقرية. و هذا الشقاء شيء محتوم تستلزمه طبيعة العبقرية نفسها، فإن الرجل العادي يسعى إلى تحقيق إغراضه الشخصية، و هذه الغايات دنيوية صرفة أي تافهة كل التفاهة، و من ثم فقد يبلغها، و يصل من ورائها إلى السعادة كما يتمثلها، و هذا ما تسميه العامة “بالنجاح في الحياة” و هو أمر مألوف، و الناجحون في الحياة كثيرون. أما الرجل العبقري فهو لا يسعى إلى تحقيق غايات شخصية مطلقاً بل يبحث عن الموضوعية في الأشياء لا في العلاقات التي تربطها بإرادته أي منفعة، و لذلك فهو لا ينجح غالباً في الحياة بذلك المعنى المبتذل الذي يقصده الناس بكلمة النجاح، و هو في بحثه عن المثل ينسى أن يبحث عن طريقه الخاصة في الحياة، و لذلك فإنه قلما يسلك طريقه في الحياة الواقعية إلا بخطى مرتبكة. فهو يضحي بسعادته الشخصية في سبيل غاية موضوعية، و هو يعرف الإنسان أكثر مما يعرف الناس.

من أسباب شقاء العبقري أنه لا يستطيع أن يجد له نداً في الوسط الذي يعيش فيه، بينما العامة من الناس يستطيعون أن يجدوا لهم أشخاصاً متشابهين بل و متماثلين معهم تماماً؛ أو الطبيعة أشبه بمصنع كبير يستطيع أن ينتج كل يوم ملايين من نفس النوع، و هذه السعادة، سعادة الصداقة قد حُرِم منها العبقري، بينما يستمتع بها الآخرون. فإختلافه عن الآخرين يجعل اتصاله بهم أمراً غير محبب سواء بالنسبة له أو لهم، و هم يرتبطون فيما بينهم بروابط شخصية، فإية سعادة يمكن أن يجدها في الاتصال بهم، و أية سعادة يمكن أن يجدوها في الحديث اليه!

و سبب آخر للشقاء هو أن العبقري لا يستطيع أن يتكيف مع عصره، بينما يستطيع الآخرون أن يشبعوا مطالب المعاصرين و أن يرضوا أذواقهم، فهم يحيون حياة سعيدة فيها الشهرة و المجد و المال، بل إن العبقري في صراع دائم مع عصره لأنه لا يعيش له، و إنما يعيش للأجيال المقبلة، بينما نجد أصحاب المواهب المتوسطة يصلون في اللحظة المناسبة لأنهم متشبّعون بروح العصر مدركين لحاجات الزمن الذي يعيشون فيه، و لذلك قلما تتذوق الأجيال اللاحقة أعمالهم. كلما كان النور الذي يضيء العقل قوياً، كان إدراك العقل لسوء حالته أوضح و أدق.

ليس أمام العبقري إلا أن يظل في داخل ذاته وحيداً هو و مسؤوليته. صامتاً كالقبر، هادئاً كالموت لأن الصمت هو صمت الحياة الروحية الباطنية.

 

تعليقات

إدارة الموقع